منتدى ونادي قرية عقيبة
بكل الحب والتقدير نرحّب بكم في منتدانا
منتدى ونادي قرية عقيبة
بكل الحب والتقدير نرحّب بكم في منتدانا
منتدى ونادي قرية عقيبة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى ونادي قرية عقيبة

ثقافي . اجتماعي .ترفيهي
 
الرئيسيةالبوابة*أحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خريف الأحزان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بيوراسب
المدير العام
المدير العام
بيوراسب


ذكر
عدد الرسائل : 375
العمر : 59
تاريخ التسجيل : 25/01/2009

خريف الأحزان  Empty
مُساهمةموضوع: خريف الأحزان    خريف الأحزان  Emptyالجمعة مارس 09, 2012 11:49 pm

بسم الله الرحمن الرحيم

خريف الأحزان



[size=18]
[color=olive]
لَيْس للفقر دينا وَلا قَومِيَّة أَوَمَذْهَباً كَمَا أَنَّه لَيْس لَه وَطْناً كَذَلِك .
حِيْن يُصَاب بِه أَحَداً، تُسْحَب مِنْه كُلّ الذَّرَائِع والْحِِيَل وَيُبَدِّد الْحُلُم لِيُصْبِح أَوْهَامَاً، وَتَغْدُو الأُمْنِيَات أَفْكَارَاً مَطْرُوْحَة عَلَى شَاطِئ بَحْر الْطُّموْح الْمَشرُوع ،وَيَبدو الْنُّهُوض بِالْحَالَة مِن دُرُوب الْمُسْتَحِيْل كَأَنَّمَا هُنَاك أفَلْجاً يَسْعَى إِلَى بُلُوْغ قِمّة .
حِينَهَا لا يَنفَع المَرء رَجَاؤُه مِن أَحَد، إِلا مَن قَرَّر أَن يَتَخَلى عَن بَعض من مَوَاد بِنَاؤُه كَإِنسَان حِينَهَا سَيَرضَى أَن يَتخَلَى عَن كَرَامْتُهِ !!
قَد يَنَال مايَصبُوا إِلَيهِ عَدِيم الشرَف عَبر الوَسائِل المُختَلِفَة،وَلَكِنَّه يَبقَى في قَرَارَة نَفسِه سَاقِطَاً مَدَى الحَيَاة كُل مَن يَقبَل الْذُّل وَالهَوَان فِي سَبِيِل أَمَانِي نِهَايَتهَا الهَاوِيَة .
فَلتَعلَمُوَا عِلم اليَقِين أَن العَقْل مِيزَان الإنسان ..!
مَتى عَرَف المَرء ذَلِك أَحسَن تَقدِير ذَاتِه وَرَضِي بِمَا كُتِب لَه،لأن ّالقناعة كَنْز لايُفنِى .
بَعض النَّاس فِي الرِّيف يَترُكُون قُرَاهم آَمَلَين فِي تَحسِين مُستَوَاهم المَعِيشِي فَيَتخُلون عَن أَرضِهِم وَعَن بَعض المَظَاهِر القَرَوِيَّة ،مِنهَا التَّوَاصُل وَالأُلفَة .
وَآَخَرُون يَتركُون القَريَة بُغيَة مُوَاصَلَة دِرَاسَتِهِم الجَامِعِيَّة فَيَعتمِد عَلَى نَفسِه أَو يَنتَظِر وَارِدْاً شَهرِيّاً يُؤَمِّن لَه مَا يُقِيتُه خِلال وَجُودُه فِي المَدِينَة .
قَد يَكُون لَه فِي المَدِينَة أحداً مَن ذَوِيه أَو من جِيرَانَه ،وقَد يَقضِي سِنِّي دِرَاسَتُه عَلَى الكَفَاف أَو أَقْل مِن ذَلِك بِحَسَب الْدَّعْم الْمَادِّي لَه .
مِن بَين هَؤُلاء يَنبَري شَابّاً طَيِّبَاً خَلَوقَاً لبقاً مُتَوَاضِعَاً فقيرالحال ،مُتَوَسِّط الطَّول وَالأَردَاف وَاسِع الجَبهَة ذوَعَينَين كَبِيرَتَين تَتَأَمَّلان الطُّمُوح والكبرياء ،كما َتُمَثِّل البَرَاءَة والحزن معاً،كَأَنَّهمَا تبوحان بِقِصَّة حَزِينَة تَروي فِيهَا عَن مَاضِي هَذَا الشَّاب الأبِيّ .
َيُغَطي فَروَة رَأسِه شعرِاً خَفِيَفْاً مُلتَفّاً عَلَى بَعْضِه على شكل خَواتِم مُنسَدِل الذَّوَائِب ، صُوَرَتَه تُشبِه صُوِر كَثِير مِن الفَنَّانِين الكِبَار مِن الَرسَامِين وَالنَّحَّاتِين وَغَيرِهِم مِن الذين يَلتَمِسُون الْفَن وَيَعمَلُون بِه .
لا يَختلِف كِنَان كَثِيْرَاً عَن هَؤُلاء العُظَمَاء بِحِسِّه المُرهَف وشُعورِه كَإِنسَان يَعمَل للإنسانية ِوَمَفَاهِيمِهَا.
قَد يُكبَتُ الفّنّان مَا يَعتَرِيهِ مِن أَلََم ويُظهر الاِبتسامة، قد يُخفي بعضهُم صُور الشؤمِ والبُؤس ِوالفَشل والإسقاطات المُختلفِة في حَياتهم ،لكنّهم وجدانيّون واقعيّون وأكثرَهُم يُؤمنُ بالمَدينةِ الراقيةِ والفاضلة التي تؤمن أنَّ الحريّة مفهوم إنساني عظيم ,وأنَّ التحرّر واقعا حَضاريّا ،وأنهُ يَجب العَمل على بناء الإنسَان السيّد لأنه يمثّل صورة َالخالق في خلقه .
حِين َتَقَدَّم كَنَان إِلَى " كُلِيَّة الْفُنُوْن الْجَمِيلَة " كَطَالِب في عامِهِ الأوّل كَانَت هَذِه " الكُلِّيَّة " تُمَثِّل أُحدَى أَفضَل مُفَاضَلَة يَتَقَدَّم بِهَا إِلَى إِدَارَة " الجَامِعَة " كَخِيَار أَوَّل ،فَهِي تُمَثِّل أُحدَى أَولَى وَأَهَم طمُوَحَّاتِه فِي رَسم طَرِيق مُستَقبَلِه كَمَا يُحِب أَن يَرَاه، لِيَبدَأ مِشوَارِه مِن بَاب هَذِه " الكُليَّة " لَطَالمَا حَلَم بها.
لا تَخْتَلِف مَدِينَة طرْطوس كَثِيرَاً عَن مَدِينَةِ دِمَشق أَو سِوَاهَا مِن بَاقِي المُدُن السُّورِيَّة ،فَالَحَيَاة فِي بلادِنَا مُتشابه، قَد تَختلِف القَريَة عَن الحَضر وَلَهَا وَصف مَعرُوف في كُل بِلاد العَالَم، أَن لِلقَرَوِي طَبِيعَة وللحضري طَبِيعَة مُخْتَلِفَة ،وَالفَرق الوَحِيد بَين المُدُن المُخْتَلِفَة هِي العَاصِمَة الَّتِي تُمَثِّل أَطيَاف مِن مُجتَمَعَات كَثِيرَة مُختَلِفَة،كَالَسُّيّاح الأجانب وَالطُّلاب المُغتَرِبِين وَالعُمَّال الوَافِدِين مِن كُل أَصقَاع سُوريّا ،ربّما تَختَلِف انتماءاتهم القَومِيَّة أَو الدينِيَّة أَو المَذهَبِيَّة وَلَكِنَّهُم يَفخَرُوْن جَمِيعُهُم بِأَنَّهُم سُوَرِيُّون .
هَذَا الاختلاف البَسِيط لا يُمَثِّل مُشكِلَة عِند كَنَان وَلا عِند غَيرِه ،رُبَّمَا وُجُود ازدحام وَهُوأَمْر طَبِيْعِي لَيس فَقَط فِي محَافَظَة دِمَشْق وَرِيفُهَا بَل فِي كُل عَوَاصِم دوَل العالَم .
حِين عَبَر كِنَان الرِّوَاق إِلَى قَاعَات الصُّفُوف الأولى، كَان فَخُوَرَا لأَنَّه لا يَختَلِف كَثِيرَاً عَن أَقرَانِه مِن الشَّبَاب فِي مِثل سِنِّه، وَأَنَّه لَيس هُنَاك ثمَّة فَرَقَا بَينَه وَبَين البَقِيَّة الَذِيْن تَجَاهَلُوه لِكَونِه غَرِيب، شَأْنُه فِي ذَلِك كَشَأن أي طَالِب أَو وَافِد جَدِيد إِلَى الصُّفُوف الأُوْلَى ،َحِين أَخَذ مَكَانِه فِي المَقْعَد رَاح يَتَأَمَّل القَاعَة باستغراب لِكَونِهَا لا تَختَلِف كَثِيْرَاً عَن تِلْك الَّتِي فِي " جَامِعَة تَشرِين "وَغَيرُهَا،وَذَلِك بِعَكْس مَا تَخَيَّلَه حَيث تصوّر أَن تَكُون هُنَاك لَّوْحَات إِلِكتِرُونِيَّة أَو إِنَارَة ذَاتِيَّة أَو طُرُقاً وَوَسَائِل تَعْلِيمِيَّة مُختَلِفَة .
أَمْضَى نَهَارُه الأَوَّل فِي الكُلِّيَّة مُزَوَّداً بِجُملَة طَلَبَات وَكَتَب يَحتَاج لِشِرَائِهَا أَكثَر مِن سِتَة آَلاف لِيَرَة كَبِدَايَة ،كَانَت تلك المَصاريف ضِمن تَوَقَعَاتِه تَمَامَاً رُبَّمَا أَكثَر مِن ذَلِك بِقَلِيل ،حِين عَاد إِلَى غُرفَتِه المُستَأْجَرَة مِن قِبَل ابن عَمِّه فَيصَل بَعد يَوم شَاق استلقى عَلَى فِرَاش أِسْفَنَجي رَقِيق وَوَضَع يَدَه عَلَى جَبِينِه مُتَأَمِّلا الاستمرار دُوْن تَقصِير أَو تَذَمُّر،وَأَن هُنَاك أَربَعَة أَعوَام كَامِلَة حَتَّى يَنَال شَهَادَتَه المَرجُوَّة إِن لَم يَتَخَلَّف عَن اختبار، مَا قِد تَطُول سِنِّي دِرَاسَتُه الجَامِعِيَّة وَلَمَّا انتهى خَيَالِه مَن تَصَوُّر مُستَقْبَلِه بِكُل أَشكَالُه كَان فَيصَل قَد عَاد بِالْطَّعَام وَبَعْض مواد السمانة الْلازِمَة لشَابِين أُعَزبَين مِن سُكْر وَشَاي وَمَتَّه وَسَمَّنَه وَغَيرِهَا .
كُنْت أَقْطِن فِي نَفس المَنزِل، وَكَانَت غُرفِتِي تُقَابَل غُرفَتَهُم بِحَيث يَسُهل عَلَيَّ أَن أَرَاهُم ،لَم يَكُن فَيصَل شَابّاً سَيِّئَاً أَبَداً وَلَكِن طَبِيْعَة وظيفتهِ القاسية كَشُرَطِي وَبِحُكْم عَمَلِه فِي قِسْم التَّحقِيق وَمَا يَجْرِي فِيه، تَجعَله يَمِيْل إِلَى القَسوَة فِي طِبَاعِه ،وَلَكِن حِين يَعُود إِلَى مَنزِلِه يَنسَى كَونِه شُرطِيّاً، وَيَتَعَامَل مَع جِيْرَانِه كَقِرُوي وَوَاحِداً مِنْهُم فَلا يَتَمَيَّز عَنهم فِي شَيء ،قدْ يَختَلِف كِنَان عنه مِن حَيث مَا يَملِكُه كَفَنّان حَسّاس وَشَاب طُمُوْح قَد لايَرْضَى العَيش مَع فَيصَل كَشُرَطِي فِي قَرَارَة نَفسِه ،رُبَّمَا لَم يَجِد أَفضَل مِنْه لِيُشَارِكَه الغُرفَة خَاصَّة وَأَنَّه حِيْن يَعُود كِنَان إِلَى الغُرفَة يَكُون فَيصَل فِي الخِدْمَة، لِذَلِك قَلَمَا يَتَوَاجدَان مَعَا فِي نَفس اليَوم إلا فِي أيَاْم الجُمُعَ كَيَوم عُطلَة وَرَاحَة لِكُل مَا يَتَعَلَّق بِالحُكُومَة وَالْدَّولَة وَأَشغَالَهَا .
دَعَانِي فَيصَل إِلَى غُرفَتِه لِنَحتَسِي المَتَّة مَعَا وذلك قَبل أَن يَذهَب إِلَى عَمَلِه ،قُبِلَت الدَّعوَة وَكَانَت تِلْك هي زِيَارَتِي الأُولَى لغُرَفتِهُم الَّتِي بَدَت صَغِيرَة وَقَد انكشط عَن جُدرَانِهَا بَعض الطِّلاء القَاتِم المُهتَرء، وَظَهرَت رَدَاءَة لَون الاسمنت، وَذَلِك بِسَبَب الرُّطُوبَة الْعالِيَة وَقَد غَدَت رَائِحَة غُرفَتَهُم مَمزُوجَة مَع رَائِحَة التَبغ المُنبَعِثَة مِن سَجَائِرِهِم حِين تَكُوْن أَبوَابُهَا مُوصَدَة ،وقد علق عَلَى أَحَد جُدرانِهَا صُورَة لِمَنزِل رِيفِي وَحِيد عِند مَجرَى نَهْر عَلَى ضِفَافِه تَرَاكَمَت الْثُّلُوج تُمَثِّل فَصَل الْشِّتَاء ،وذلك بلَّونٍ رَّمَادِي حَالِم، كأنها تعكس حالةُ من رسمها، وََعَلَى الجِدَار آَخَر عُلِّقَت صُورَة للإمام عَلَيَّا ( كَرَّم الله وَجهَه ) يَضَع العِمَامَة عَلَى رَأسِه رَمزاً لِلعِزَّة والإباء ،بَيْنَمَا افترشت َأرضِيَّة الغُرفَة بِحَصِيرة قَش لدَائِنِيّة وَعَلَيَْها فرشِتَين أِسفَنجَيَتَين رَقَيْقَتيَن رِثتَين ،وَأَربَع وَسَائِد صَغِيرَة تَغَشوّهَا مَادَّة تُشْبِه لَون المَعجُون الْبُنِّي وَذَلِك نَتِيجَة العَرَق المُتَجَمِّع وَالمُتّكتل عَلَيهَا نَظَرَا لِقِلّة الاهتمام بِأغُلَفَتِهَا مِن تَنظِيف وَغَسيل ٍوَذَلِك بِسَبَبِ الإهمال وَعَدَمِ المبالاة ،قَد لا يقْبَل أَحَد مُتحضّرْ أنْ يَضَع رَأسَه عَلَى إِحدَاهَا أَو أَن يَستَلْقِي عَلَى الفِرَاش كَمَا يَستَلْقِي كِنَان، وهُنَاك صُندوْقاً خَشَبِيَّاً لِنَقُل الْفَاكِهَة أَو الْخُضَار قَد وُضِع عَلَى جَنبِه بِحَيث تَكُون الْفَتحَة باتجاه صَدَر الغُرفَة ، وَذَلِك بِجَانِب مَدخَل بَاب الغُرفَة يَستَخْدِمُونَها كَحَافِظَة للأواني الخَاصَّة بِأدوات الطَّبخ وَبَعض الكُؤُوس الزُّجَاجِيَّة وَيَعلُو الصُّندُوق إِبْرِيق شَاي وَمِقلاة أَلمُونِيُوْم بِدَاخِلِهَا بَضعَة أَطبَاق بَلاستِيكِيّة وَخَزَفِيَّة وَمَلاعِق لِلطَّعَام .
أَخَذت مَكَانِي حيثُ أَرَاد فَيصَل أَن أَجلِس، وَرَاح يُعَد المَتَّة بَينَمَا رَاقَنِي أَن أُعِيد تَقيِيم اللوحةِ المعلقةِ والتي تمثّل صورة المنزل فِي الْثَّلْج وَرُحت أَتَأَمَّل جَيِّدَاً المَغزَى مِن رَسْم مِثْل هَذِه الْصُّورَة الَّتِي يَغلِبُهَا الْلَّون الْرَّمَادِي ،وَذَلِك بِأَنَاقَة مُتَنَاهِيَة فِيهَا بَصمَة فَنَّان وَشَاعِر .
وَاضِح أَن فِي لَمَسَاتِه إِتَقَانَاً وَإِبدَاعَاً وَمَخِيلَة وَاسِعَة وَهَادِئَة لابُدّ و أَن مِن رَسَمِهَا احتاج إِلَى شَحذ الأَطيَاف المُختلِفَة لاختيار شَكْلٍ مُعَبِّرٍَ يَنتَهِي بِه إِلَى لَوَحَة جَمِيلَة بِهَذِه الرَّوعَة سَأَلْت فَيصَل:
أَتَعرِف أَن صَاحِب هَذِه الْصُّوَرَة إِنَّمَا يَعِيش فَقرَاً وَقَهَرَاً وَحِلمَاً لا يَنْتَهِي أَبَداً !!
ابتسم ابتسامة عَرِيضَة ثُم قَال :هَل تَستطيع تقييم مِثْل هَذِه " الْلَّوْحَة " وتسقطها على نَفسِيَّات أَصحَابِهَا ؟؟!.قُلت باهتمام : نَعَم بَعض الشَّيء وَيَعُود ذَلِك إِلَى شغفي بِالْفُنُون .
ببساطته المعهودة قاطعني قائلاً: هَل تَستَطِيع أَن تُوَضِّح أَكْثَر عَن هَذِه الْلَّوحَة فَإِن مِن رَسمِهَا يَخُصُنِي وَأُرِيد أَن أُعْرِف تَعلِيقَك ؟.
سَاوَرَنِي الشَّك أَن مَّن رَسم تِلْك " الْلَّوحَة " قد يكون كِنَان ذاته،وَقَد أَرَدتُّ التَّعلِيق بصوتٍ مرتفعٍ لَتَصِلَ إليهِ رِسَالَتِي .
نَظَرت إِلَى عَينِي فَيْصَل مُبتَسِمَا وَأَنَا أُحَرِّك رَأسِي مُوَافِقَاً فَقلت :نَعَم سَأَشرَح لَك بِالضَّبط، بَينَمَا كَان قَد تَحَرَّك كِنَان فَجأَة فَنَظَرت إِلَيه خِلْسَة وَقَد عَرَفتُ أَنَّه مُستَيقِظُا وَعَرَفت أَنه رُبَّما يَستمِع إِلَي أَيْضا فَتَابَعَت حَدِيْثِي قَائِلاً :
نَعَم إِن صَاحِب هَذِه الصُّوَرَة يَبدُو أَنَّه يَعِيش حَالَة عُزلَة لَرُبَّمَا كَان الفَقر سَبَبَا أَو عَدَم فَهم مِّن حَولَه لَه ،وَأَرَى أَن هُنَاك خُصُوصِيَّة فِي هَذِه " الْلَّوحَة "لابُدّ و أَن مَن رَسمُهَا أَرَاد أَن يُفَكِّر بِصَوت هَادِئ بَعِيدَاً عَن الْنَّاس وَمَشَاكِلَهم فَهُم لا يَأبَهُون لهُ كَثِيْراً، أَو رُبَّمَا أَرَاد أَن يَعِيش كمُتصوّف بِمَعزِل عَن هَذَا العَالِم الصَّاخِب التَّائِه بِنَظَرِه،وَالَذِين لا يَستَطِيعُون قِرَاءَة أَفكَارَه لِذَلِك فَهُو يَرَى نَفسَه بَين أَمرَين إِمَّا أَنَّه وُلِد قَبل أَوَانِه بِخَمسِين عَامّا أَو أَنَّه لا يَنتَمِي لِهَذَا العَالَم أَبَداً .
كَانَت ضَحَكَات فَيصَل عَالِيَة بَينَمَا انتفض كِنَان مِن عَلَى فِرَاشِه وَتقَدِّم مِنِّي بِكل تَوَاضُع ثمّ َأَخَذ يَقُول بِلَهفَة :أَنَا كِنَان أَحمَد ابن عَم فَيصَل تَشَرَّفنَا بِك سَيِّدَى وقبل أن يُكمِل حديثه معي نَظرَ إلى ابن عَمِّه فَيصَل قَائِلاً :انقع لِي كَأسَاً من المتّة أُرِيد أَن أَشرَبَهَا مَعَكُم ثم عَاد وَنَظَر إِلَي مُبتَسِمَا وَمُستَغَرِّبا وهو لاينفكّ يرّحب بي مرّة أخرى .
لَم يعهد كنان وَأَنَّه استقبل أَحَداً مِن أَصدِقَاء أَو زُمَلاء ابن عَمِّه أو حاورهم فقد كان يتصوّر في النهاية أنهم موظفون بكل بساطة وأكثر هّمّهم يصبّ في جمعُ المالْ ، وتجاذب الأحاديث المختلفة وخاصة عن الهفوات والنهفاتِ المُختلفَة ِالتي حَدثت مَعهم خِلال الخدمةِ أو بَعدها ، حيث لا يطيب لكنان سماع مثل تِلك الترّهات التي لا تَنفع في إثراء مَعرفتِه وصَقل ثقافتهِ.
ولَم تَكن فِي تَوَقَعَاتِه أَن هُنَاك مَن قد يَحلِل نَفسِيَّة فَنَّان مِن خِلال " لَوَحَة " عَادِيّة، وأنهُ يمكنُ لأيٍّ كانَ تَحليل وقراءة ِأفكارِ أصحابُ "اللوحَاتِ" المُختلفة ،وكأنها مباحة لكل من يُريد البحث فيها .
قبلَ أن يَبدأ بالتعريفِ عن نفسهِ سَبقتهُ مُبادِرًا الى التعريف فقلت:أَنَا أُسَمِّي حُسَين وَيُلَقِبُونَنِي بِأَبِي عِيسَى وَأَقطُن فِي نَفس الدَار مَعَكُم ثُم أَشَرت إِلَى غُرفَتِي مستدركاً :وتِلْك هِي غُرِفِتِي .!.
دُهِش حِين عَرف أَنِّي فِي أقٌطن المَنزِل ثُم ابتسم بِشَكْل خَجَوَّل وَقَال :حَمدَا لِلَّه إِذ أَنَّك لَنَا جارا لنا فَسَنَستَطِيع أَن نَتَقَابَل مُعَا إِذَا وَاتَتِنا الظُرُوف ثُم تَابَع يَقُول :أَتَعرِف أَنَّك أَوَّل مِن حُلَل الصُّوَرَة بِشَكْل صَحِيح ،هَل دَرَست الفَن أَو عِلْم الْنَّفس ؟فَأَجَبْتَه والابتسامة لا تُفَارِقُنِي :
أَنَا لَيس لَدَي شَهَادَة جَامِعَيّة لَقَد ذَهَبْت بُعَيدَاً فِي تَقدِيرِك لِي فَأَنَا مُجَرَّد جندي متطوع لا أَكْثَر وَلا أَقَل .
كَم كَانَت دَهشَتُه عَظِيمَة حِين عَرَف ذَلِك ثُم بَادَرَنِي مُستَدْرِكَاً بِسُؤَال :عَلَى ثَقَافَتِك بِصَرَاحَة قُلْت رُبَّمَا أَنِّي أَمَام أُستَاذ جَامِعِي أَو رُبَّمَا أَمَام خِرِّيج مُجتَهِد لا أَدرِي وَلَكِنِّي لا أُصَدِّق كونك عَسْكَرِيَّاً حَتَّى، وَلا يُمكِن لِلْعَسكَر أَن يَكُونُوْا عَلَى مِثْل هَذِه المَقدِرَة مِن التَّحلِيل وَالْوَصف فبادرته مازحا : إذا يجب أنْ تؤمن أنَّ هناك جنودا مثقفين أليس كذلك ؟ .
كَان فَيصَل قَد انتهى مِن إِعدَاد المَتَة وَبَدَأ يُسكَب لثَلاثَتِنا ثم نَاوَلَنِي كَأسِي وَتَابَع :حَقّا أَنَا مَسرُور جِدّاً بوجودك فَقَد تَشَرَّفت بِمَعرِفَتِك .
لَم يَكُن تََوَاضُعِه اتضاعاً بَل هُو انحناء السُنبلة من بِذرةٍ صَالِحَةٍ وَهُو أَدَب المَعرِفَة وَتَعَبِيراً عَن أَخلاقِيَّات الفَتِي المُثَقّف الَّذِي يَتطلَّع إِلَى الكَلِمَة المَنطِقِيَّة وَيَرَاهَا كَنزَاً يُضِيِفُهَا إِلَى قَنَاعَاتِه .
يُشْبِه فِي ذَلِك أَخلاقِيَّات بَعض الصُوفِيِّين فِي التَّعَامُل بَينَهُم وَكَأَن لِلتَّوَاضُع بَاباً وَاسِعَاً يَدخُل مِنه المَرء إِلَى السَّمَاء،مِثْل هَذَا الشَّاب مَقبُولاً عَلَى الأرض وكذلكَ في السَّمَاء .
كَانَت نَظَرَاتِه إِلَي تُحيِ يفيّ حُبّي لِلْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة وَدِرَاسَة قِصَّة الفِرَاسَة بِشَكْل أَوسَع لَقَد أَحَبَّنِي كَمَا لَم يُحِب أَحَدَاً غَيرِي ،ولكن ربما هي رَحمة من الله سبحانه وتعالى في جَمع الأرواح وائتلافها.
كَان فَيصَل يُجَهِّز نَفسِه لِوَدَاعِنَا عَلَى أَمَل اللِّقَاء بِنَا فِي اليَوم التَّالِي حَاوَلتُ أَن أَستَأْذِن أَنَا أَيضاً ،وَلَكِن كَان رَجَاء كِنَان لِي بِالبَقَاء مَعَه وَكَان أَمَلُه عَظِيمَاً أَن أُوَافِق رُبَّمَا لَدَيه الكَثِير لِيَقُولَه لِي .
لَم يَهْتَم لِخُرُوج ابن عَمِّه فَيصَل عَلَى قَدر اهتمامه بِبَقَائِي، تَوَالَت أَسئِلَتِه وَكُلَمَا أَجَبتُه عَلَى وَاحِدَةً حَرَّك رُكبَتيه بِهِمَّة وَكَأَنّه يَقُوْل لِي :إن مَا تَقوْلُه هُو فِي عَقلِي وَقَلبِي، أَخَذ يُعَد المَتَّة مُرَّة أُخرَى ،بَعضُهُم لايَجِد أَن الفَائِدَة تُرجَى مِن هَذِه المَادَّة، وَلَكِن البَعض الآَخَر يَجِد فِيهَا لَذَّة ، خَاصَّة وَأَنَّهَا تُطِيل من عمر السمرِ والسهر.
خَطَر عَلَى بَالِي أَن أَسأَل كِنَان لِمَاذَا اختار " كُلّيَة الفُنُون الجَمِيلَة " وَلَكِنِّي تَرَدَّدت لَرُبَّمَا أُحرِجَه بِالسُّؤَال لِكَون أَن هَذِه " الكُلِيَة " لا تَتطَلَّب علامات عَالِيَة كَالطِّب والصيدلة مَثَلا،وَلَكِنِّي آَثَرت السُّكوت ،كُنت أَخشَى أن يَجِد نَفسَه مُحرَجا أمامي .
قَضَينا مَعَا نَحو أَربَع سَاعَات كَامِلَة نَتبَادَل مَعَا معلوماتٍ ثقافيّة بَين تَأيِيد لآرَائِي وَإِيمَان بِأَفكَارِي وبين استماعي الجَيِّد إِلَى مَا يَقُولُه.
كَان قَد انتهى الهَزِيِع الأوّل مِن اللَّيل واستوى القمر في قُبَّة السَّمَاء وَأَخَذَت الرِيّاح تُدَاعِب أَسلاك الْكَهرَبَاء وَتُصدِر أصواتا تُشبِه نَغمَة "الَدو" فِي آَلَة الهارغ، لَيسَت تُطرِب وَلَكِنَّهَا تُشَكِّل رِسَالَة إِلَى الأشجار البَاسِقَة وَالمُثمِرَة مَفَادُهَا أَن الخَرِيف قَادِم وَأَنَّه لابُد مِن خَلَع ثَوبَهَا الأخْضَرأَمَام الشِّتَاء القَادِم. وَهِي فِي الحَقِيقَة مِن طُقُوس البِيئَة فِي التَّجَدُّد والاستمرار وَهُو صِرَاع ُ البَقَاء أَيضاً .
دَخَلَتُ غُرِفِتِي وَقَد كَان يَدُور فِي رَأسِي سُؤَال يُؤرّقني،َذَلِك بَعد أَن استمعت مِن كِنَان عَن مَرَاحِل حَيَاتِه وَقَد عَرَفت حَال أُسرَتِه الفَقِيرَة الَّتِي تُنَاضِل فِي سَبِيِل تَأمِين الكَفَاف، وَلَيس هُنَاك طُمُوح لَدَيهِم سِوَى مُسَاعَدَة كِنَان وَأَخْتُه كَامِيلِيَّا الطَّالِبَة فِي السَّنَة الثَّالِثَة فِي قِسم الآَثَار،وَذَلِك فِي إِنهَاء دِرَاسَتِهِم وَالوُقُوف يَدَا وَاحِدَة لِلعَمَل عَلَى رَفع المُستَوَى المَعِيشِي لأسَرَتِهُم والانطلاق نَحو مُستَقبَلٍ مُشرِقٍ أَسَاسُه العِلم وَبناؤه الأَخلاق وَالفَضِيلَة وَلَكِن قَد تَأتِى الرِّيَاح بِمَا لا تَشْتَهِيه السُّفُن، رُبَّمَا هُو طُمُوح مشروع لخَلِيَّة مِن مُجتَمَع فِي وَطَن يَسعَى جَمِيع أفرادَ شعبه إِلَى الازدهار وَالرُّقِي لابدّ وَأَن ذَلِك يَتَطَلَب مَزِيداً مِن العَطاء وَالتَّفَانِي لِلوُصُول إِلَى الأَهدَاف المَرجُوَة .
يجب أن نَتركَ رِسَالَةً إِلَى الأجيالِ القَادِمَة بِأَن الحَيَاة هِي مُقَاوِمَة ، فلا حياة على الأرض دون مقاومة .
حِيْن دَخَلتُ غُرفَتِي استقبلتني زَوجَتَي وَهِي وَاجِمَة ،حَاوَلت التَّكَهُّن لأَفهَم سبب غضيها ثُم بادرتها بسؤال :مَاذَا بِك وَاجِمَة ؟
دَفَعْت يَدَي عَنْهَا بِغَضَب ثُم قَالَت :لِمَاذَا لَم تَنَم عِندَهُم أَلَيس أَفضَل مِن النَّوم هُنَا ،لَقَد قَضَيت نَهَارِك وَلَيلُك هُنَاك !؟ .
ضَحِكَت بِهُدُوء وَقَد بَدَا الانزعاج وَاضِحَا عَلَى مُحَيَّاهَا لِكَونِي تَرَكتُهَا وَحدَهَا فِي الغُرفَة مُدَّة طَوِيلَة ،لَم اترُكهَا تَنَم عَلَى هَذِه الحَالَة فَقَد هَدّأَتُ مِن غَضَبها بِكَلِمَات قَلِيلَة مداعباُ ايّاها وَذَلِك لَما أَعرِفهَُ عَنهَا مَن صَفَاء نَفسَهَا السَّرِيع .
حِين عَلا عَمُود الْصَّبَاح كان يُؤَذِّن لِي بِيَوم جَدِيد يَحمِل فِي طَيَّاتِه أَحدَاثَا أُخرَى لَكِن بِشَكْل مُختَلِف .
تَمُر الأيَّام مُسرِعَة كَالسَّحَاب، َنَقضِيُّهَا بَين مِطْرَقَة اْلعَمَل ومشاقة وَسِندَان الأَحزَان والآلام وَتُطَبِّق عَلينَا بكِمَاشَة العَادَات وَالتَّقالِيد لِتَنتَهِي بِنَا سَرِيعَاً إلى نِهَايَة المَسعَى، بَينَمَا لَحَظات السَّعَادَة لا تَعدُو كَونِهَا سُوَيعَات قَليلَة تَمضِي لِتَبقَى صُوَرَا جَمِيلَة تَبقَى مَحفُورَة فِي ذَاكِرَتِنا نَلجَأ إِلَيهَا حِين نُرِيد أَن نَستَعِيد شَيئا مِن عِزَّتِنَا وَمَجَّدنَا، وَلَكِنَهَا تَخبُو بِسُرعَة كَمَا الأَشْبَاح فِي جُنح الظَّلام لِكَوْنِهَا تُشبِه فِي حَالَتُهَا أُسطُوْرَة الأولدُرَادِو قَد تَصَدَّق بَعض مَا سُرِد عَنهَا وَلَكِنَّهَا لَن تَعُود لأنّها جُزء مِن تَارِيخ ٍ لِمَاض أسطوري كما الأمل بعودة الشباب في خريف العمر.
كنتُ دَائِمَا أَبحَث بِشَوق عَن الإنسان السَيِّد فِي ذَاتِه وَلَيس سَيِّد الإنسان فِي حاله.
َقَد تَتصَادَف يَومَا بِأَحَد تَجهَلُه وَلَكِنَك بِمُجَرَّد لِقَاءَك الأَوَّل بِه تُحِبُّه وَكَأَنَّك تَعرِفُه مُنذ زَمَن وهذِه الحَالة هي عامّة وليست لها خصوصية معهودة،لابُد وَأَن كَنَان هُوأَحَد الَذِين صَادَفتُهُم وَكَأَنَّه وَجِدنا ضَالَّتنا بِالجُلوس مَعا والاستِماع إِلَى بَعضنا ، خاصّة حَدِيثِي العَام وَالَّذِي قد يَجِد فِيه مَا يُثْرِي ثَقَافَتِه ومَفَاهِيمُه .
كَانَت هَذِه الأَحَادِيث فِي أَغلَبِهَا دِينِية تَبحَث في َفِكرَة وِحدَة الَوَجَود وَتَعَدَّد الرِّسَالات وَكَثْرَة المَفَاهِيم المُختَلِفَة بِاسم الدِّين لَدَى أَربَاب الدِّيَانَات جَمِيعَا، سَوَاء كَانُوا رُهبَانَا أَو قِسِّيسِين أَو كَهَنَة مَعَابِد أَو مَشَايِخ طُرُق وَمَذَاهِب إِسلامِيَّة مُختَلِفَة .
لقَد أُمِرنَا بِطَاعَة الخَالِق وَعِبَادَتِه وَلا مَنَاص مِن فِعل الخَيرَات الَّتِي سَتُسَوِق المَرء بِفِعلِه الصَّالِح إِلَى الجَنَّة ,فعَلَى كُل مَن يُؤمِن بِالْتَّقَمُّص أَولا يُؤمِن يَجِب أَن يَأخُذ بفِكْرَة وُجُوب طَاعَة الخَالِق ،والابتعاد عَن أذيّةِ النَّاس وَذَلِك بِالوَصَايَا الكَثِيرَة الَّتِي تَرَكَهَا الحُكَمَاء والأَنبِيَاء والرسل لأنّها سَبِيلَنَا إِلَى رَاحَة أَنفُسَنَا،وذلك بِغَض النظرعن الطُّقُوس المُختَلفَة فِي الدِّيَانَات السَّمَاوِيَّة وَالشَّرائِع الأرضِيَّة ،إِلا أَن أَصِل وُجُودِهَا تَخدِم غَايَة وَاحِدَة ، وهي طاعة الله سبحانه وتعالى ، فَأَنَا حِيْن أُصَلِّي لِلَّه بِحَسَب أَي طَقس مِن طُقُوس هَذِه الدِّيَانَات ،إِنَّمَا أُرِيد مَرضَاة اللَّه سُبحانه وتَعالى وَلَيس ليرضى عنّي العَبد أَو رَئِيس الدِّين ذَاتِه ،لأَن أَربَاب الدِّيَانَات جَمِيعَهَم كَان لَهُم وَجِهَات نَظَر مُختَلِفَة فَمِنهُم مِن حلَل وَمِنهُم مَن حَرَّم وَمِنهُم أَجزَل بِالفَتوَى،وَمِنهُم مَن جَاء بِالصِرَاع الطَّبَقِي ذَلِك الذي يُقَسِّم العِبَاد إِلَى طَبَقَات بِحَسَب جُلودَهَا وَأَلوَانُهَا كَالهِندُوسِيّة وَالبُوذِيّة وَالجِينِيّة وَسواها،وآخرون َمَن يجِدوا فِي أَمَتَّهَم الأرْقَى وَالأَنقَى، بينما َيَرَون العَالَم كُلَه دُونِهِم وَأَنَّهُم أَبنَاء الْلَّه كَاليَهُود .
فَكُل مفكر ومنظرفِي دِيَنٍ أَخَذ يَأْتِي بِأَفْكَار وَاجتهادات هِي لَيسَت مِن عِند الْلَّه ،إِنَّمَا ابتدعوها وَجَعَلَوهَا فُرَوضَاً عَلَى تابعيهم وَمَن يُّخرِج عَن طَاعَتِهم لَيس مِنهم وَيَستَحِق الْقَتل.
وَقَد وَرَد ذَلِك فِي أَكثَر الدِّيَانَات ،لَكِن تَوَلَدَت لَدَي قَنَاعَة مَفَادُهَا :أَنِي لا أَقْبَل النَّقَّاش فِي أَن الْلَّه رَبِّي وَرَب السَّمَوَات وَالأرض وَرَب كُل المَخْلُوقَات ، هَذِه كَلِمَة حَق لا أَقْبَل النَّقَّاش فِيهَا وَمَا دُون ذَلِك قَد أَقبَل بِه إلا الشّرْك والشُّرُ وَالقَتْل أَو أَن أُقَلّب مِيزَان الحَق كَشَاهِد زُوَر .
لا اختلاف عندي فِيمَن يَنتَمِي إِلَى أَيَّة قَومِيَّة ،فَقَد استوت القَومِيّات لَدَيّ أَيضا وَغَايَتِي هِي أَن يَكُون الإنسان سَيِّدَا فَالطَّالِب وَالعَالَم وَالعَارِف وَالمُثَقَّف وَالمُرشِد والرَاشِد وَعَلَى رَأسِهِم المُتَوَاضِع الَّذِي قَد يَجهَل مَقَامَه عِند النَّاس وَلَكِن مَقَامَه مَّحمُودَا عِند الْلَه هَؤُلاء هُم فِي طَبَيعَتَهُم أَسيَادَا وَهَؤُلاء مِن أَبْحَث عَنَّهُم في الحقيقة.
كَانَت تِلك هي اللّيلة الثانية الّتي أسهُر فِيها مَع كنان الذي أخذ يَستَمِع إِلَي بِاهتِمَام بَينَمَا مَا بَرِح يُسكَب لِي مَا يَنقُص مِن كَأسِي وَيُتَابِع النَظَر فِي عينيّ وَكَأَنَّه يَقرَأ نّفسِه فِيهما، وَأَنَا أَتَابِعُه عَن كَثب دُون أَن أَخفَض مِن وَتِيرَة الحَدِيث أَو الهُرُوب مِن تَسَاؤُلاتِه، فَمَن قَرَأ عَلَى الْنَّاس شِعرِا عَلَيه أَن يَشرَح فَحَوَاه ،وذلك بطرقٍ تجعلهم أشدّ اهتماما لمعرفة مكامن الروعة في القصيدة.
كُنت أَسهَب فِي شَرحَي لأي مَوضُوع وَذَلِك لإثراء وَتَوثِيق الموضوع بِدَلائِل وَبَرَاهِين كَثِيرَة بعيدا عن الرياء والنفاق.
لقَد بَدَأ الهَزِيِع الأوَّل مِن اللّيل، َتَجَوَّلَت بِنَظَرِي في أَرجَاء الغُرفَة بُرهَة وقبل أَن أَستَأذِن بِالخُرُوج َسَبَقَنِي بِدَعوَتِي لِتَنَاوُل طَعَام العِشَاء مَعَه وقد أصرعلى ذَلِك، فَوَافَقتُه ثُم رُحْت أُفَتِش فِي كُتبِه بَيْنَمَا اختفى كنان لِبَعض الوَقْت ثم عَاد يَحمِل بَعض مَن البَيض وَحَبَّتَي أَو ثَلاثَة مِن " البَنَدُورَة "ثُم رَاح يُعَد الطَعَام بينما كنتُ أراقبه عن كثب ،فيما اكتشفت أنه لايجيد استخدام أدوات المطبخ .
ربّما يَقْضِي أَربَعَة أَعوَام وَهُو يَدرُس لِيَنَال الشَّهَادَة وَقَد يقتصر طعامه عَلَى البِيض المَقْلِي أَو المَسلُوق أَو مِلعَقَة لَبَنِه أَو حَبَتّي زَيتُون لَكِن هَل سَيُقْضَى نَحو أَلف وَمِائَتَي يَوم هَكَذَا ؟؟ وَجَبَات سَرِيعَة خِلال دَوَامِه فِي الكُلِيَّة وَأَطعِمَة خَفِيَفَة يَحْشُو مَعِدَتِه بِهَا لِيُسكِت جُوْعَها !!.
تُرَى هَل هِي حَالَة كل إِنسَان سَيِّد أَم أَن ّ لِكُل امرءٍ حُظُوظُه فِي هَذِه الحَيَاة ؟!.
هَل تَخضَع هَذِه الظُرُوف لِلزَّمَان وَالمَكَان أُم أَنَّنَا نَعِيش الأَبعَاد كلَّهَا وَلا نَدرِي ؟!
يَبْقَى لِلزَّمَان ظَرْفَاً ،إِذَْ رُبَّمَا نَعِيش الأبعَاد الأرْبَعَة حَيث تَقَع جَمِيعُهَا تَحت مُسَمَّى وَاحِد وهو " الزمكان"، قد َتَخْتَلِف الأَشْكَال وَالألوَان وَالصُّوَر وَلَكِنَهَا تَبْقَى تَحت حُكم هَذِه النَظَرِيَّة وَقَد يَذهَب العِلم إِلَى أَبعَد مِن ذَلِك رُبَّمَا يَتَجَاوَز الأبعَاد العَشَرَة ،وَمَن يَعرِف مَا يُحَيِطَنَا مِن عَوَالِم فَقَد نَكُون عَلَى قِطعَة أَرض مِسَاحَتُهَا هِكتَار وَيَعِيش عليهِ أقوام ومَخْلُوقَات حَيّه، أو أكثر من ذلك ،قد تَتَفَاوَت أَعدَادَهُم وَأَشكَالِهِم ،قَد يَكُون لِكُّل مِنهُم عَالِمْاً وَلا نَدرِي .
رُبَّمَا سنَعرِف تِلْك الحَقِيقَة وَلَكِن عَلَى الأقَل لَيس فِي زَمَانِنَا هَذَا بِالتَّأْكِيد .
انتهى كِنَان مِن إِعدَاد طعام العِشَاء كُنت أُشَارِكَه بِتَذَمُّر وَقَد يَكُون أَحَس بهَذَا لَكِنِّي كُنت أُشْفِق عَلَيه وَلا يُشفِق هُو عَلَى نَفسِه وَمَا تِلْك اللُقَيمَات الصَّغِيرَة الَّتِي قَد لا تَكفِيه وَحدَه ،إلا محَاوَلة أَن يُظهِر لِي سروره بوجودي ورِضَا نَفسِه .
لَم أَطلُب مِنه أَن يَشرَح لِي طَبِيعَة مَعِيشَتَهُم فِي القَرْيَة وَلَم أَجبَرَه عَلَى ذَلِك رُبَّمَا لَم تُتَح لِي الفُرْصَة أَن أَسأَلَه ، أَو أَنَه يُحَاوِل عَدَم الْتَطَرُّق إِلَى تِلك المَوَاضِيع فَلابُدّ وَأَني ً سأعمَل عَلَى عَدَم إِحِرَاجِه .
قَضَيت مَع كِنَان أَسَابِيع قَلِيلَة لَم تَنقَطِع اللقَاءَات بَينَنَا وَلَكِنِي لَم أَسعَى إِلَى تَعطِيَلُه يوماً عَن دِرَاسَتِه ،الَّتِي كُنت أَرَاهَا بِحَق إِنجَازَاً كَبِيرَاً فِيمَا لَو نَال الإجازة الجامعيّة .
مَا كَان لِيُخفِي عَنّي إِذَا مَا أَلَمَّت بِه ضَائِقَة مَالِيَّة فَقَد كَان يَغمِز إِلَي بِالسَبَّابَة والإبهام وَيَفرِكَهُما كَعَلامَة عَلَى حَاجَتِه لِلمَال .!
حَدَث ذَات مَرَّة َأَنَّه عَاد عِند عصر ذات يَوم وَقَد أنهكه التَّعَب سَأَلْتُه :
مَا بَالُك تَبدُو مُتعِبَاً وَمُنهَكَاً أَين كُنت ؟!
فَرَد عَلَي وَهُو يَشحَذ مِن شَفَتَيْه الابتسامة بِقَلَق وَقَال : أبدا لَقَد عدتُ سِيَرَاً على أقدامي مَن المَدِيْنَة إِلَى هُنَا .
استغربت ذَلِك ثُم سَأَلْتُه :وَلِمَاذَا جِئْت سَيرَاً طَالَمَا سُبُل الانتقال كَثِيْرَة ؟!
وَقَبل أَن يُجِيبَنِي اختار عتبة بَاب غرفتي وَجَلَس عَلَيها، ثُم أَخَذ يُنفَخ وَيُلَوِّح بِيَدِه قَائِلا: لَعنَة الْلَّه عَلَى الفَقْر ،لَم أَكُن أَملِك خَمس لِيرَات لأعُود إِلَى بَيتِي ذُهِلت مِمَّا سَمِعت وَلَم أَعُد أَعِي المَوقِف جَيِّدَا وَلَكِنِّي بِادِرَتَه عَلَى الفَور قَائِلا :
لِمَاذَا لَم تَطْلُب مِنِّي مَالا ؟!..ضَحِك بِسُخْرِيَة وَهُو يَقُوْل :
يَا أَبَا عِيْسَى أَنْت مُتَزَوِّج وَلَك ثَلاثَة أَبْنَاء وَأَعرِف أَنَّك مُوَظَف وراتِبك قد يَكفِيَك وَحدَك فَكَيف تُرِيدُنِي أَن أَطلُب مِنْك ؟!
قُلت :عَلَى الأَقَل لا يَقِف ذَلِك عَلَى ثمن أَجرة الانتقال، فَاللَّه سُبحَانَه وَتَعَالَى يَتَوَلانِي وإياك أَلَيس أَفْضَل مِن أَن تَأْتِي سَيرَاً عَلَى الأقْدَام ؟! .هَز رَأسَه باستهزاء ثُم قَال :
لَيس أَجرة الانتقال فَحَسب ،ثُم أَخَذ مِن مِحفَظَة أَقْلامَه قَلْم رَصَاص وَقَال :هَل تَعرِف كَم أَحتَاج لأشتَرِي مِثل هَذِه الأقلام ؟
قُلت مُقَاطِعَاً ايّاه :أَلَيس هَذَا قَلَم رُصَاص؟! ابتسم ثم استوى وَاقِفَا وَهُو يُرَبِّت عَلَى كَتِفِي نَعَم هُو كَذَلِك، قَد أَحْتَاج إِلَى أَنوَاع مِنهَا نحن نَستَخدِمُهَا فِي الرَّسم وَثَمَنَهَا يَتَجَاوَز الثَمَانِمِائَة لِيَرَة وَهِي مَجمُوعَة أَقْلام خَاصَّة بِالرَّسم وَالتَظلَّيل وَلَهَا أَسمَاء كـ " بِي وَاحِد " و" بِي اثنان" و " بِي اتش "قَد لا تَكتَرِث كِثِيرا إِلَيهَا أَنت،َلَكِنَهَا ضَرُورِيَّة وَهَامَّة!!.
شَاقَنِي مَا سَمِعتُه مِنه وَقلت فِي نَفسِي تَرَى كَيف وَمَن أَين يَأْتِي بِالمَال اللازِم ؟!!
ثُم أَمْسَك بِيَدِي وَأَخَذنِي إِلَى غُرفَتِه واستدرك قَائِلاً :لا يَهُمك أمري ، فَأختِي " مُعَيدِة " فِي " جَامِعَة تَشرِين " سَترسَل لِي مَا أَحتَاجُه مِن نُقُود وَتَنتَهِي مِحنَتِي، ثم قاطعته بسؤال :وَمَن سَيَأْتِيَك بِهَا ؟!
دَفَعَنِي إِلَى الغُرفَة ثُم تَابَع يَقول :سيأتيني بها ابن عَمَّي فَيصَل ،هَيَّا هَيَّا سَأعِد كَأسَاً مِن المَتَّة رَيثَمَا يَأتِي هَذَا الجَاهِل ثم ضَحِك وَرَاح يُعَد المَتَّة الَّتِي كان يَرَاهَا قَبل طَعَامَه وَشَرَابَه وَقَبْل أَن يَبدَأ بِأَي شَيء .
بينما غَرقتُ في التَّفْكِير مِن جَدِيَد تَرَى مَا الَذِي قَد يَأتِي بِه ابن عَمِّه فَيصَل؟! وَهب أَنَه جَاء بِالمَال اللاّزِم ،كَيف سَيُنفِق لِبَقِيَّة الشَّهر ؟!تَتَالَت سُحب الْتَّأوِيْلات بَين استفسار وَتَسَاؤُل شَعَرت بِيَد تَّوَكَزنِي تَنَاهَى صَوتَه إِلَي وَهُو يَقُول بِصَوت طُمُوح يُرِيد التقليل من أهميتي بحاله،أوكأنه يهرب من حالةٍ صنعها هو:
أَبَا العِيس لا يِهِمِّك أَمرِي يَارَجل مَا بَالك تُشَرِّد كَثِيراً، سَتُحَل إِن شَاء اللَّه رُغم أَنَّنِي لَم أَقْتَنع تَمَامَاً وَلَكِنّي بِادِرَتَه بابتسامة ثم قُلْت لَه :
أَنَا أَتَسَاءَل تَرَى لِمَاذَا يُحدِث ذَلِك دَائِمَا مَع الفُقَرَاء بِالتَّحدِيد ؟!وَهُنَاك مَن لا يَحمِلُون أَيَّة شَهَادَة وَلا يَسعَون لَهَا وهم يَبذرُون المَال فِي أمور تافه فِي أَكْثَرِهَا،بَينَمَا أنت طَالِب تحتَاج إِلَى ثَمَن مَجمُوعَة أَقْلام رَصَاص لا تحصُل عَلَيْهَا. هزّ رأسه وابتسامته المعهودة لا تفارقه : أخي العزيز إنها حال الدنيا.
ترى كَم ْعدد الذين كُتِب لهم العيش مثلنا على الكفاف أو أقلّه؟!
ثم تسَاءلتُ مخاطبا نفسي :
كيفَ يَبْدأ كنان مشوار الألف ميل اذاً،هل يجب أَن يَبحَث عَن عَمَل إلى جانب دراسته؟! هل أطرح عليه ذلك ؟!. لكني أخشى أن يتعلق بالعمل وينسى دراسته الجامعيّة .. لكني لا أَحتملُ أَن أَرَى أَحَداً يَتَحَطَم مُستَقبلِه مِن أَجل بَضعَة نُقُود .
كَان يُحَدِثني بِاهتِمَام وَ رُغم أَنِّي كُنت أَهُز رَأسِي تَوَاضُعَاً وَإِيذَانَاً بِأَنِّي أُوَافِقُه لَكِنِّي كُنت شَارِد اللُب حِينَهَا ،دَخَل فَيصَل وَأَلْقَى التَّحِيَّة وَبِيَدِه " لَوَحَة " رَسم مَلفُوْفَة بِعِنَايَة ، أَخَذها منه كنان فورَ وُصولهِ بينما اختار فيصل مَكَانَه عَلَى مُقَدِّمَة الغُرفَة وقد أنهكه ُالتعب ،وَبَعد أَن انتهي مِن التَّرحِيْب بِي وَقَبل أَن يَسأَلَه كِنَان أَخرَج مِن جَيبِه قِطعَتَين نَقدِيَتَين مِن فِئَة الخَمسَمِائَة لِيَرَة تَنَفَس الصُّعَدَاء،تناولها منه كنان والبهجة على محيّاه.
ثم أخذ يُمَزِّق الوَرَق المَلفُوْف على تلك "اللوحة"وِتَظْهَر " لَوَحَة " نُحَاسِيَّة تُمَثِّل صورة امرأتين مَوسِم الحَصَاد ،إحداهن تَطحَن القَمح بِوَاسِطَة الرَّحَى وَالأُخرَى تُسَاعِدُهُا بِتَلقِين الرَّحَى حَبّاً ،وتسند ظهرها على شجرة كبيرة ومعمّرة ، ومن خلفهما ترتفع كومة من سنابل القمح المليئة بالحَبِّ كرمز للخير والعطاء.
لَم يَكُن الرسُم بِالألوَان المَائِيَّة أَوسِوَاهَا بَل اُسْتخدِم طريقة النقْشَ عَلَى صَفِيحَة نُحَاسِيَّة نَافِرَة لِتَتَشَكَّل صُورَة بِحَجم التَّعَب وَالمَشَقَة والإتقان وَالرَّوعَة فِي رَسم مَثَل تِلْك "الْلَّوْحَة " قد تكون أحد أهم أعمالها الرائعة لأختِهِ "نحوى" في الرسم التعبيري ..
قَدَّمَهَا لِي قَائِلاً :هَذِه " اللّوحَة "لأختِي هي من رسمتها ،مع ابتسامته المعهودة التفت اليّ بينما كان يمعن النظر فيها تابع قائلا: أليست جميلة ؟!.قلت له باهتمام : نعم جميلة جدّا وواضح بصمتها الرائعة فيها من خلال تفاصيل دقيقة جدا،احتاجت فيه إلى صبر ووقت طويل حتى ظهرت هذه "اللوحة" بإتقان وإبداع وخيالٍ رائعْ ؛ وكأنها التقطت صورة حقيقيّة للحالة قبل أن ترسمها .
ثم وضع تلك "اللوحة "جانبا بعناية واستدرك قائلا: هذه اللوحة أَرسَلتَهَا أختي لأَبِيعُهَا وَأَعِيش بِثَمَنِهَا بحسب قيمتها..هَل تُرِيد أَن تنَزَّل مَعِي إِلَى سُوق الْلَّوْحَات اليوم ؟!!
سَألتهُ باِسْتغراب: وَهَل تُرِيد أَن تَبِيع هَذِه " اللَوحَة " الجَمِيلَة ؟!ثُم استطرد قَائِلاً :نَعَم لابُدّ وَأَن أُختِي أَرسَلت هَذِه " اللَوحَة " لِمُسَاعَدَتَي .
كَانت فرحتهُ كََبيرة بِتلك "اللوحة ". وَافَقْتُ على ذهابي مَعَهُ، لكنني لم أكن أريد أن يبيعها . لَم أعرف لماذا قد ترسل أخته نجوى تلكَ "اللوحة" الرَائعة ليبيعها؟.ترى كم مِنَ الوَقْت والجُهد بَذَلتْ حتى حصلت عليها ؟!لكني كنت أقدّر ذلكَ وقد كنتُ على يقينٍ أنها إنَما كل اللوحات التي تَرسُمها لا تُسَاوي شيئاً أمامَ حاجة أخيها ، بالنسبةِ اليّ هي تضحية عظيمة تكشف عن مدى العُمق العَاطِفي الذي تربطهم كأسرة .
كان فيصل مسرورا لكونه اِستطاع َأن يقدّم خدمة لابن عمّه،كُنت أراقبهما عن كثب بعد أن دخلا في حديثٍ ثنائي شيّق ،بينما أخذت تلك اللوحة النحاسيّة مرّة أخرى أتلمّس تجاويفها الدقيقة والجَميلة وأتساءل ترى ماذا كانت تقصد "نجوى" من هذه اللوحة الرائعة؟ انه مَوضُوع عن مَوسِم الحَصاد، تُرى ماذا حصدَت نجوى من هذه اللوحة حتى يحصدَ كنان منها .
لِلحظات راودتني شكوك غريبة فتساءلت : إذا كانت صاحبة اللوحة لم تستفيد منها هل سيستفيد منها كنان ؟؟!
تدخّل فيصل وأدركني قائلا : إلى أين وصلت أبا عيسى هل أعجبتك تلك اللوحة ؟ ثم أردف : جميلة ونظيفة أليس كذلك ؟.، قال ذلك وكأنه يستعرض بضاعة، سَخِر كنان من أسلوبَه ثم غمزني قائلا : كيف أنت اليوم ؟.قاطعته قائلا :الحمد لله ، ثم حاول تغيير الحديث قائلا: إن شاء الله عِند حُلُول المَساء نَذهَب مَعَا لبيع اللوحة وافقته على ذلك مستفسرا: وَلَكِن أَيْن يَقَع مِثْل هَذَا السُّوق فِي دِمَشْق ؟.فَأَنَا لا أَعرِف أَن هُنَاك سَوقَاً خَاصَّاً بلوحَاتُ الرّسمِ وَغَيرِهَا ،نظر اليّ باستغراب ثم أخذ يلومني لِكَونِي أَغفَل عَن مِثْل هَذِه الأسوَاق ،خَاصَّة وَأَنَّنِي أَعِيش فِي دِمَشق أقدَم المُدن تاريخيّا .
لقد عَرفتُ أسواقا كثيرة ولكن لم يَخطر لِي أنّ هناك سُوقاً خاصاً بفن الرسم والنحت ،لابدّ وأنني لا أعرِفُ أشياء أخرى عَن ْهذِه المَدينة العرِيقة،كقلعتِها الشامِخة وأسواقها العامِرة بالتجار والسّياح، والجامع الأموّي ،وقبرُ البَطل السُّلطان صَلاحَ الدّين،كما أعرف مقامات هي للسيّدة زينب وأخاها سيدنا الحسين والسيدة رقيّة والسيدة سكينه عليهم السلام كما أعرف قبر الصحابي بلال الحبشي وزينب الصغرى،وأعرف أحياءً وبلدات أخرى في دمشق وضواحيها.،ولكنّي لم أعرف عن سوق اسمه سوق اللوحات وهذه ليست غريبة،فدمشق لها تاريخ عريق،لابدّ وأنها من أقدم المدن في التاريخ وفيها كل مقومات الحياة المدنيّة الناجحة ..
فقد كانت أمّي رحمها الله تحذّرني من المدن بأنها قاسية ولا رَحمَة فيها ،كانَت رَحِمها الله تقول عن سكّان دمشق بتساؤل: مابَال سُكان هذه المَدينة يَستفيقُ سُكّانها على عَجل ؟! يضيق بهم الوقت دائما تَجدهُم يَسرِعون إلى أعمَا لِهِِِم ويعودون إلى منازلهم بذات الوَتيرة التي انطلقوافيها !!.
لَم ْتكن تعلم أنّ العَاصِمة تمثل مَركزا حَيويا،وأنّ هناك بُضعَ ساعات ٍيجب استغلالها قبل أن يمضي النهار لمن يريد قضاء حاجته في الدوائر المَركزية ،لم تكن تهتم إلى ذلك رحمها الله .
فرائحة تراب أرض القرية حين يهطل المطرُ، ليست كما هي في شوارع المدن، في القرى تُروى الأرض وتنِبتُ الثمر،في المدينة تغسِل الشوارعََ َوأسطحَ المنازل، في القرى يتجه الفلاحين إلى حصاد الموسم في الصيف في المدينة يتجه المواطنون إلى أعمالهم ، لكل دورة فلا الفلاح يترك أرضه ولا العامل يترك معمله،جميعهم متساوون بالمشقة تقريبا .
إنما الحياة مسرحا للجميع ، كلٌّ يؤدي دوره ويمضي ، يبقى الأداء فإمّا أن يمضي دون أن يترك أثر في النفوس ،أو أنه يبدع فيخلّد للتاريخ ،أو أنه في طور الإنشاء كماهي حالة كنان الذي ينتظر ليعمل على أداء الدور المناسب الذي سيجعل منه ممثلا رائعا على مسرح هذه الدنيا الفانية.
لَم يَمض وَقْتَا طَوِيلا حَتَّى أسدَل الليلُ ستارهُ،وفي غياب القمر كَانَت لَيلَة غَبْساء شَدِيدَة السَّوَاد رَغم الأنوَار الَّتِي تُحِيط الشَّوَارِع وَلَكِنَهَا شَاحِبَة تََدعُوَنِي إِلَى الْتَّشَاؤُم لا أدري لماذا،لكنني آثرت أن أتفاءل خيرا قبل أن يدرك كنان ذلك.
كُنَا مَعَا َعلى طَرِيق " الأوَتُسْتُرَاد العَرِيض " المُؤَدِّي إِلَى مَلعَب " الفَيحَاء " وَالَذِي لا يَفصِلُنَا عَن شَارِع " بَغدَاد " إِلا أَمتَارّا قَلِيلَة ،حيث سوق "اللوحات"الفنيّة ، تَدفَعُنَّا الْنَّسَمَات البَارِدَة إلى مُرَاقَبَة خَطَوَاتِنَا الرَّتَيبة الموحّدة كرتابة البندول .
لَقَد كانَ يأَمل كِنَان خَيَّرَا فِي بَيع " لَوَّحَته " لَم أَفصَح لَه عَن شعوري حَتَّى لايَعتَبِرَني فَأَل سَيِّئ عَلَيْه .آثرت السُّكُوت وَتابعنا السِيَر معا عَلَى الأقدام عَن الاستِعانة بِوَسِيلَة نُقِل تُقلُنَا إِلَى ذَاكَ الشَّارِع فَلَم يَكُن يَهِمِنا كَم نسَيِّر كَان هَمِّنَا الأوَّل وَالأَخِير هُو بَيع " اللّوحَة " .َلَكِنَنَا لَم نُفلِح رَغم امتداح أَصحَاب المحلات لَهَا وَالثَّناء عَلَى مَن رَسَمَهَا وَلَكِن السَّبَب في كَسَاد سُوقِهَا، أَنَّهَا لِفَنّان مغمور إذن فَلا سُوق لَهَا ،لأنّ الناس يختارون اللوحات التي تمثّل الطبيعة ،أو أشكالا ورسوما مختلفة من الحيوانات المفترسة والأليفة .
أَحسَسنا وَكَأَن كُل شَيْء سُدَّ فِي وَجْهِنَا بَل أَصَبحَت تلك "اللوحة" عِبئَا ًوحملاً زَائِدَا.
لم تعد تبدو تلك "اللوحة "جميلة كما كنتُ رأيتها من قبل،لم أهتم بها كما اهتمامي أوّل مرّة ، لقد خيّبَت أملا آخر لكنان في كسادها ..
لَم تفَارِق الابْتِسَامَة محيّاه ،لكنه بدا مُستهتراً بِأَذوَاق النَّاس،وَسَفَاهَة أَصحَاب الحَوَانِيت المُخْتلِفَة الَتِي تَبِيع مَثَل تِلك " اللّوحَات " إِذَا مَاذَا يَفعَل بِتِلك " اللَّوحَة " وَمَن سَيَشتَرِيَهَا ؟!! من يَحلّ لغزَ هذا الغُموض الذي يكتنفُ حالةَ الفقراء ِجَميعهُم ؟!.
لِماذا يَجب على الفلاّح أن يحرِث الأرضَ، ويزرَعها، ويَسقيَها ،ويَتحمّل الطقوس المُختلِفة، ثم عِند مَوسِم الحَصَاد يُصادرُ التاجرُ شَقاؤه بأبخسِ الأثمان؟!!..بينما بِسمّاعة هَاتف يَربَح هذا التاجِر أضعَاف مَا نالهُ هَذا الفلاحْ..
لماذا حِين تُدَق طبولِ الحرب ِ، يُدفعُ بالجنودِ البواسِل إلى الخطوط َالأماميةِ ،فيقاتلون ويُقتلون ،بِينما النّصر يكونُ لأمراءِ الحربِ الذينَ يقبعونَ في قُصورِهم يقطفون ثمار ما أنجزه هذا الجندي؟؟! ...
لا أدري إذا كانَ مردُّ ذلك هو قلّة الحيلة ، أم هومكر الزمان وسخريّة الأقدار...
لَقَد تَأَثَّرَت كَثِيْراً بحالِة كنان،إذ لَولا الحَاجَة والعوزُ لَمَّا تَرَكْتَه يَعْرِضُ تلك "اللوحة" لِلبَيْع أَصلاً،لكنّه البؤسَ الذي خيّم على الحالة برمّتِها،وسوء الفأل الذي يلاحق كنان ..
عُدنا إلى المَنزل بِنفس الوَتيرة التي خَرجْنا فِيها معَ بعضِ التشاؤم والاشمِئزازَ وترديدِ كنان للعِبارة ذاتها ((اللي مالوا حظ لا يتعب ولا يشقى))، لا سَبيل إلى حلّ اذاً !.
كانتْ تلكَ ضربة قاصمة بالنسبة إليّ بينما لم تكن تعني شيئا بالنسبة إلى كنان،فقد اعتاد الحظ العاثر خلال مسيرة حياته،على العكس ، فقد اهتمّ لحُزني عليه وأخذ يربّت على كتفي وكأني أنا الذي فشلتُ في بيعِ تلكَ "اللوحة" .
كنت ُ أخاطب نفسي قائلاSad(بالله عليكَ يا صديقي كفاك تهرّبا ممّا أنت فيه،يؤلمني تَجَاهُلكَ لما يحدُث لك، أليس حريّا بك مواساة نفسِك ؟! كنتُ بغنىً عن مَعرفتي بك لقد أضفت إلى مخزن آلامي صُورا حَزينة أخرى )).
مضت أيام قليلة قبل أن اكتشف ذات "اللوحة" في غُرفة صَديقٍ لي وقد استغربت بل استهجنتُ وجود مثل هذه "اللوحة" معلقة على جدار غرفته ،لَكِنِي فِيمَا بَعْد عَرفَتُ أَنَّه بَاعَهَا كنان بِخَمسِمِائَة لِيَرَة إِلَى" س " من الناس كُنت أَعرِفُه جَشَعَا لا يَفْقَه شَيئا لَقَد استغل حَاجَة كِنَان إِلَى المَال وَاشْتَرَاهَا مِنه.كَم كُنت مُمتَعِضا حين رأيتها في بيت ذاك الأفّاك الذي يرى الأشياء بعيني جَاهِل،وقد عَرفتُ ذلك الرجل بسفاهتهِ وقلة عقلهِ ، ذاكَ الذي كان يجد في التطفّل إلى موائد النّاس توفيراً الجيبه ،ويَرى أنَّ الدّنيا لا تعدو كونها سَاحة لتحقيق المآرب الدونيّة،كاللهو والبَغاء ِوالمادّة وسِوَاها وذلك على حساب البعض،تِلك التي يَراها أفقاً لهُ ولا يرى أبعد من ذلك سوى مقدمةِ أنفهِ ومصا لحه الدونيّة التي تدل على مدى شُحّه وبخلهْ والاستكانة إلى التطفل على الناس بأساليب معيبة ومشينة لا يقبلها أحدا متحضر، هذا إلى جانب ذلك سوء خلقه وفجوره وإقامة علاقات مشبوهة عامة مع النساء .
كَان يوما عَلى علاقة مع زوجة أحد الجيران،كانت حاسرة الرأس ،شقراء متوسطة الطول والأرداف، امرأة تنظر بقوّة إلى الحياة و تَضرِب عَرضَ الحَائِط كل َّالعاداتِ والتقاليدْ ،ذلك في ظلّ مفاهيم حضارية غربِيّة ساقطة،تِحت اسْم الحريّة للجَميع وأولها المرأة الشرقية،كان يزورها "س" في مَنزلها بكلّ وقاحة ٍوأمام أعينِ الجِيران ، وقد كان ذلكِ مُستهجَناً مِن الجَميع ،ولكن لجرأتها ووقاحتها كانت تدعُوه مِن خِلال نافذتهِ في الطّابق الرّابع التي تطل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://oqibe2009.ahlamontada.com
 
خريف الأحزان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خريف الكلام

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى ونادي قرية عقيبة  :: منتدى الأدب :: منتدى القصة القصيرة-
انتقل الى: